قياسات وتأويلات أشعرية جعلت الجبرية مستترة في نظريتهم….
إذ لا
يستطيع وغير قادر المخلوق على الفعل بل يأخذ فعله من الله تعالى لحظة أو
عند بدء (توقيت) الفعل للمخلوق والله يعطي مخلوقاته أو (يكسبهم) أفعالهم
كسبا وعند التفكير في أقوالهم تجد أن السكين لا تقطع بل لحظة وضعها على
الشيء يعطيها الله صفة القطع لها…
إذا نرى هنا بأن الرجل إذا قتل أو
سرق أو زنا أو شرب الخمر هنا حسب قولهم بأن لحظة الفعل يعطيهم الله كسبا
لمخلوقاته والمخلوقات غير قادرة على الفعل دون أن يعطيها أو يكسبها الله
تعالى ذلك الفعل….
وهنا أصبح الله تعالى يجبر مخلوقاته على الفعل بإعطائهم هذا الفعل وحتى الأفعال القبيحة المفسدة والمحرمة يعطيهم إياها حسب أقوالهم
والمخلوق هو مجرد متلقي ويكسب أفعاله وحاله كالآلات لا يستطيع فعل شيء دون أن يعطيه(يكسبه) الله تعالى هذه الأفعال…
جبرية محضة مستترة بنظرية يسمونها (الكسب)….
وهنا شرح مفصل في ذلك….
ورد في جوهرة التوحيد (ص113) تعريف الأشاعرة للقضاء بأنه: “إرادة الله
الأشياء في الأزل على ما هي عليه فيما لا يزال” وجاء في تعريف القدر:
“إيجاء الله الأشياء على قدر مخصوص ووجه معين أراده تعالى”.
قال
الباجوري: “فالقضاء والقدر راجعان لما تقدم من العلم والإرادة وتعلق
القدرة” وبهذا القول يتفق الأشاعرة مع أهل السنة والجماعة في إثبات مراتب
القدر.
أما أفعال العباد – وهو أصل الخلاف في القدر – فقد إتفقت
الأشاعرة مع أهل السنة في وجه وخالفتهم في وجه آخر، إذ أن أفعال العباد لها
متعلقان – بالله وبالعبد -:
الأول: بالله، فهذا القدر هو القدر المتفق بين أهل السنة والاشاعرة على أن الله خالق أفعال العباد.
الثاني: بالعبد، وهنا وقع الخلاف بين أهل السنة والأشاعرة، من حيث إثبات تأثير قدرة العبد على الأفعال.
فالأشاعرة تتفق مع أهل السنة والجماعة في القول بأن الله خالق أفعال العباد، ووقع الخلاف في مسألة تعلق الأفعال بالعباد.
فهم بنوا نظريتهم في الكسب وقدرة العبد على أصول غير مسلمة، وهي:
أولاً: الفعل هو المفعول.
والأشاعرة أطردت أصلاً فاسداً في توحيد الأسماء والصفات، أثرت على هذه
المسألة، إذ جعلوا الفعل هو المفعول، ويظهر تأثير هذا الأصل في مسألة أفعال
العباد عند إيراد هذا السؤال عليهم: هل أفعال العباد فعل العبد؟ وقد
تخبطوا في الإجابة، وانقسموا إلى ثلاثة أقوال:
جمهورهم قالوا: هي كسب العبد لا فعله، ولم يفرقوا بين الكسب والفعل بفرق محقق.
ومنهم من قال: بل هي فعل بين فاعلين، وهو قول الغزالي.
ومنهم من قال: بل الرب فعل ذات الفعل والعبد صفته، وهذا قول الباقلاني.
انظر: مجموع الفتاوى (2/119) بتصرف.
إذ “أن من المستقر في فطر الناس، أن من فعل العدل فهو عادل ومن فعل الظلم
فهو ظالم، ومن فعل الكذب فهو كاذب، فإذا لم يكن العبد فاعلاً لكذبه وظلمه
وعدله، بل الله فاعل ذلك لزم أن يكون هو المتصف بالكذب والظلم”، وهذا من
أعظم الباطل، ولست أدري كيف تجيب الأشاعرة المعتزلة في مسألة الكلام وأن من
قام به الكلام فهو المتكلم، وأن الكلام إذا كان مخلوقاً كان كلاماً للمحل
الذي خلقه فيه، فكذلك إرادة العبد وقدرته.
كما أن الشرع والعقل متفقان
على أن العبد يحمد ويذم على فعله، ويكون حسنه له أو سيئة، فلو لم يكن إلا
فعل غيره لكان ذلك الغير هو المحمود المذموم عليها.
انظر: مجموع الفتاوى (8-119-120) بتصرف.
ثانياً: منع تأثير الأسباب في المسببات مطلقاً.
تعتقد أهل السنة والجماعة بأن المسببات تحدث بالأسباب مع القول بأن الأسباب والمسببات مخلوقة لله تعالى وربطها بمشيئة الله وقدرته.
في حين زعمت الأشاعرة بأن المسببات تحدث عند الأسباب.
وزعمهم هذا باطل، يبطله القرآن الكريم إذ ورد في غير موضع ذكر الأسباب
وربطها بالمسببات، وهي كثيرة جداً ذكر الحافظ ابن القيم في (شفاء العليل
ص316-317) و(مدارج السالكين 3/461) من أنواعها ما يلي:
1) كل موضع تضمن
الشرط والجزاء أفاد سببية الشرط للجزاء، كقوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ
اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا
يَحْتَسِبُ}.
2) كل موضع رتب فيه الحكم الشرعي على وصف قبله بحرف أفاد
التسبيب، كقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ
وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ}.
3) كل موضع ذكرت فيه الباء
تعليلاً لما قبلها بما بعدها أفاد التسبيب، كقوله تعالى: {كُلُوا
وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}.
4) كل موضع صرح فيه بأن كذا جزاء لكذا أفاد التسبيب، كقوله تعالى:
{أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ}.
وعليه إن السبب إذا وجد فلابد أن يقع المسبب، وربط ذلك
بمشيئة الله؛ إذ إنه قد ينعقد السبب التام ولا يقع مسببه إذا شاء الله عدم
وقوعه، وقد حكى الحافظ اين القيم في (إعلام الموقعين 2/699) بوجود تأثير
الأسباب في المسببات على “جواز بل وقوع سلب سببيتها عنها إذا شاء الله،
ودفعها بأمور أخرى نظيرها أو أقوى منها مع بقاء مقتضى السببية فيها، كما
تصرف كثير من أسباب الشر بالتوكل والدعاء والصدقة والذكر والاستغفار والعتق
والصلة، وتصرف كثير من أسباب الخير بعد انعقادها بضد ذلك”.
وهذا القول
يبطل ما يلزم به الأشاعرة أهل السنة من إن إثبات التلازم بين الأسباب
والمسببات يفضي إلى إنكار النبوات الثابتة بمعجزات الرسل.
ثالثاً: إنكار تأثير قدرة العبد في الفعل.
لقد وافقت الأشاعرة أهل السنة في إثبات خلق الله أفعال العباد الاختيارية
والاضطرارية، إلا إنهم نسبوا فعل الإنسان الإختياري إليه كسباً لا خلقاً –
وهذا إن كان حقاً ولكن أريد به باطلاً -، إذ إنهم عرفوا الكسب كما قال شارح
أم البراهين (ص45) بأن: “الكسب مقارنة القدرة الحادثة للفعل من غير
تأثير”.
فهم بذلك ارادوا الفرار قول الجبرية فقالوا بالكسب، وهو إثبات للعبد اختياراً وقدرة حادثة.
كما إنهم أرادوا الفرار من قول المعتزلة، فقالوا بعدم تأثير قدرة العبد الحادثة في الفعل، فلا يوجد تأثير للأسباب في مسبباتها.
غير إن تفسيرهم للكسب بالاقتران باطل أساساً، فالكسب في اللغة هو الطلب
والجمع (انظر: قاموس المحيط ص167)، وكذلك في القرآن كقوله تعالى: {أَوْ
كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} وقوله: {فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا
كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} إذ استعمل في
فعل الصالحات والسيئات.
كما إن فرارهم من قول المعتزلة أوقعم في الجبر
المتوسط، وهذا ما دفع التفتازاني في (شرح المقاصد 4/263) إلى أن يقول:
“فالإنسان مضطر في صورة المختار”، وقال الرازي في (محصل افكار المتقدمين
والمتأخرين ص288) بعد ان أورد إشكالات على نظرية الكسب: “وعند هذا التحقيق
يظهر أن الكسب اسم بلا مسمى”، وهذا حقيقة قولهم إذ يلزم مقارنة القدرة
الحادثة للفعل القول بتكليف العاجز؛ لأن هذه المقارنة لا تؤثر أصلاً. إذ أن
إثبات الأشعرة مقارنة القدرة الحادثة للفعل ليس بشيء ولا طائل تحته، إذ لا
مزية من إثباتها ما لم تؤثر في الفعل أصلاً.
لذلك أثبت شيخ الإسلام
ابن تيمية في غير موضع أن مسألة الكسب عند الأشاعرة لا حقيقة له، إذ ما دام
العبد ليس بفاعل، ولا له قدرة مؤثرة في الفعل فالزعم بأنه كاسب، وتسمية
فعله كسباً لا حقيقة له؛ لأنه القائل بذلك لا يستطيع أن يوجد فرقاً بين
الفعل الذي نفاه عن العبد، والكسب الذي أثبته له، وقد أشار شيخ الإسلام ابن
تيمية بأن قولهم هذا قريب من الجبر الذي صرح به الجهم.
كما أن القرآن
مملوء بذكر إضافة أفعال العباد إليهم، كقوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ
فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ} ونحو ذلك كثير جداً.
الكسب عند أهل السنة والجماعة وأتباع السلف الصالح رحمهم الله تعالى…
قال الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ في ( شرح الطحاوية ) :” الكَسْبُ من الألفاظ التي جاءت في الكتاب والسنة…..
– فأُضيفَ الكسب إلى القلب فقال – عز وجل – {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}[البقرة:225].
– وأضيف الكسب إلى العبد فقال – عز وجل – {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ}[البقرة:267].
– وأضيف في التكليف أيضاً في قوله {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}[البقرة:286]، {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[التوبة:82، 95]، ونحو ذلك.
وتفسيره في الآيات أن يُقَال:
– كسب القلب هو عمله وهو قَصْدُهُ وإرادته، يعني عمل القلب هو قَصْدُهُ وإرادته وتوجهه وعزمه إلى آخره، يعني في اليمين {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} يعني بما قَصَدْتُمْ أن تُوقِعُوهُ يميناَ، ولهذا في الآية الأخرى في المائدة قال {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ}[المائدة:89] الآية.
– أما كسب العمل {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} يعني من طيبات ما تَمَوَّلْتُمْ من الأموال ومن التجارات ومما أُخْرِجَ لكم من الأرض نتيجة لعملكم.
– أما الكسب الذي هو نتيجة التكليف {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فالكسب هنا بمعنى العمل، لذا قال في الآية {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}[البقرة:281، آل عمران:161] وفي الآية الأخرى سورة [آل عمران]، قال {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}[النحل:111].
فإذاً كَسَبَتْ وعَمِلَتْ تتنوع في القرآن:
فالكسب الذي هو نتيجة التكليف هو العمل؛ لكن قيل عنه كسب تفريقاً ما بينه وما بين الاكتساب؛ لأنَّ الله – عز وجل – لمَّا ذَكَرَ التكليف في آية البقرة قال {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} ليبيِّنَ – عز وجل – أنَّ عمل العمل الصالح كسب سهل يمكن أن يعمله بدون كُلفةٍ منه ومشقة عليه، أما عمل السيئات التي عليه فيعملها بكُلفَةٍ منه ومخالفَةْ وزيادة اعتمال وتَصَرُّفْ في مخالفة ما تأمره به فطرته.
لهذا قالوا: زاد المَبْنَى في {اكْتَسَبَتْ}لأن َّهُ يحتاج إلى جُهدٍ منه ومشقة بخلاف العمل الصالح فإنه يُقْبِلُ عليه بنفسه.
فإذاً العمل هو الكسب، وهذا هو تفسير أهل السنة والجماعة للكسب على ما دلّت عليه الآيات.
وأما الآخرون من الفِرَقْ: الجبرية والقدرية ففسَّرُوا الكسب بتفسيرات أُخَرْ.
– أما القدرية فإنهم قالوا: الكسب هو خَلْقُ العبد لفعله؛ لأنَّهُ يوافق لمعتقدهم في ذلك.
– والجبرية الذين هم الأشاعرة في هذا الباب فأخرجوا للكسب مصطلحاً جديداً غير ما دلَّ عليه الكتاب والسنة، وقد ذكرته لكم عدة مرات في أنَّ الكسب عندهم هو اقتران الفعل بفعل الله – عز وجل -، اقتران ما يُحْدِثُهُ العبد بفعل الله – عز وجل -.
فعندهم أنَّ الفعل حقيقة هو فعل الله، والعبد حَصَلَ له العمل؛ لكن النتيجة هي الكسب.
فالعبد في الظاهر مُخْتَارْ، العبد في الظاهر يعمل، العبد في الظاهر يُحَصِّلْ ما يريد؛ لكنه في الباطن مفعول به.
والكسب هذا عندهم مما اختلفوا فيه على أقوال كثيرة جداً وليس تحتها حاصل.
المقصود من الكلام أنَّ الكسب عند الجبرية عند الأشاعرة ما يُفَسَّر بتفسيرٍ صحيح، وهو من الألفاظ المبتدعة التي ضَلُّوا بسببها في باب القدر، أَحْدَثَهُ الأشعري ولم يُفَسِّرْهُ بتفسيرٍ صحيح، وأصحابه أيضاً لم يُفَسِّرُوهُ بتفسير صحيح إلا بدعوى الاقتران” .