قال الإمام الأشعري:
قد سئلنا أتقولون إن لله يدين؟
قيل: نقول ذلك بلا كيف، وقد دل عليه قوله تعالى: (يد الله فوق أيديهم) من الآية (10 /48) ، وقوله تعالى: (لما خلقت بيدي) من الآية (75 /38) .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله مسح ظهر آدم بيده فاستخرج منه ذريته) ، فثبتت اليد بلا كيف.
وجاء في الخبر المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن الله تعالى خلق آدم بيده، وخلق جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس شجرة طوبى بيده) ، أي بيد قدرته سبحانه.
وقال تعالى: (بل يداه مبسوطتان) من الآية (64 /5) .
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كلتا يديه يمين) .
وقال تعالى: (لأخذنا منه باليمين) من الآية (45 /69) .
وليس يجوز في لسان العرب، ولا في عادة أهل الخطاب، أن يقول القائل: عملت كذا بيدي، ويعني به النعمة، وإذا كان الله عز وجل إنما خاطب العرب بلغتها وما يجري مفهوما في كلامها، ومعقولا في خطابها، وكان لا يجوز في خطاب أهل اللسان أن يقول القائل: فعلت بيدي، ويعني النعمة؛ بطل أن يكون معنى قوله تعالى: (بيدي) النعمة، وذلك أنه لا يجوز أن يقول القائل: لي عليه يدي، بمعنى لي عليه نعمتي، ومن دافعنا عن استعمال اللغة ولم يرجع إلى أهل اللسان فيها دوفع عن أن تكون اليد بمعنى النعمة؛ إذ كان لا يمكنه أن يتعلق في أن اليد النعمة إلا من جهة اللغة، فإذا دفع اللغة لزمه أن لا يفسر القرآن من جهتها، وأن لا يثبت اليد نعمة من قبلها؛ لأنه إن روجع في تفسير قوله تعالى: (بيدي) نعمتي فليس المسلمون على ما ادعى متفقين، وإن روجع إلى اللغة فليس في اللغة أن يقول القائل: بيدي يعني نعمتي، وإن لجأ إلى وجه ثالث سألناه عنه، ولن يجد له سبيلا.
ويقال لأهل البدع: ولِم زعمتم أن معنى قوله: (بيدي) نعمتي أزعمتم ذلك إجماعا أو لغة؟
فلا يجدون ذلك إجماعا ولا في اللغة.
وإن قالوا: قلنا ذلك من القياس.
قيل لهم: ومن أين وجدتم في القياس أن قوله تعالى: (بيدي) لا يكون معناه إلا نعمتي؟ ومن أين يمكن أن يعلم بالعقل أن تفسير كذا وكذا مع أنا رأينا الله عز وجل قد قال في كتابه العزيز، الناطق على لسان نبيه الصادق : (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) من الآية (4 /14) ، وقال تعالى: (لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) من الآية (103 /16) ، وقال تعالى: (إنا جعلناه قرآنا عربيا) من الآية (3 /4) ، وقال تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله) من الآية (82 /4) ، ولو كان القرآن بلسان غير العرب لما أمكن أن نتدبره، ولا أن نعرف معانيه إذا سمعناه، فلما كان من لا يحسن لسان العرب لا يحسنه، وإنما يعرفه العرب إذا سمعوه على أنهم إنما علموه؛ لأنه بلسانهم نزل، وليس في لسانهم ما ادعوه.
وقد اعتل معتل بقول الله تعالى: (والسماء بنيناها بأيد) من الآية (47 /51) قالوا: الأيد القوة، فوجب أن يكون معنى قوله تعالى: (بيدي) بقدرتي، قيل لهم: هذا التأويل فاسد من وجوه:
أحدها: أن الأيد ليس جمع لليد؛ لأن جمع يد أيدي، وجمع اليد التي هي نعمة أيادي، وإنما قال تعالى: (لما خلقت بيدي) من الآية (75 /38) ، فبطل بذلك أن يكون معنى قوله: (بيدي) معنى قوله: (بنيناها بأيد) .
وأيضا فلو كان أراد القوة لكان معنى ذلك بقدرتي، وهذا ناقض لقول مخالفنا، وكاسر لمذهبهم؛ لأنهم لا يثبتون قدرة واحدة، فكيف يثبتون قدرتين.
وأيضا فلو كان الله تعالى عنى بقوله: (لما خلقت بيدي) القدرة لم يكن لآدم صلى الله عليه وسلم على إبليس مزية في ذلك، والله تعالى أراد أن يرى فضل آدم صلى الله عليه وسلم عليه؛ إذ خلقه بيديه دونه، ولو كان خالقا لإبليس بيده كما خلق آدم صلى الله عليه وسلم بيده لم يكن لتفضيله عليه بذلك وجه، وكان إبليس يقول محتجا على ربه: فقد خلقتني بيديك كما خلقت آدم صلى الله عليه وسلم بهما، فلما أراد الله تعالى تفضيله عليه بذلك، وقال الله تعالى موبخا له على استكباره على آدم صلى الله عليه وسلم أن يسجد له: (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت؟) (75 /38) ، دل على أنه ليس معنى الآية القدرة؛ إذ كان الله تعالى خلق الأشياء جميعا بقدرته، وإنما أراد إثبات يدين، ولم يشارك إبليس آدم صلى الله عليه وسلم في أن خلق بهما.
وليس يخلو قوله تعالى: (لما خلقت بيدي) أن يكون معنى ذلك إثبات يدين نعمتين، أو يكون معنى ذلك إثبات يدين جارحتين. تعالى الله عن ذلك، أو يكون معنى ذلك إثبات يدين قدرتين، أو يكون معنى ذلك إثبات يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين ولا قدرتين لا توصفان إلا كما وصف الله تعالى، فلا يجوز أن يكون معنى ذلك نعمتين؛ لأنه لا يجوز عند أهل اللسان أن يقول القائل: عملت بيدي وهو نعمتي.
ولا يجوز عندنا ولا عند خصومنا أن نعني جارحتين، ولا يجوز عند خصومنا أن يعني قدرتين.
وإذا فسدت الأقسام الثلاثة صح القسم الرابع؛ وهو أن معنى قوله تعالى: (بيدي) إثبات يدين ليستا جارحتين، ولا قدرتين، ولا نعمتين لا يوصفان إلا بأن يقال: إنهما يدان ليستا كالأيدي، خارجتان عن سائر الوجوه الثلاثة التي سلفت.
الإبانة للأشعري ص125